1990
كانت تـتحسَّـسُ الفراشَ والحائطَ والشُّـبَّاكَ ، تـتلمَّسُ حرارةَ النهارِ ،،
ما زالَ أمامَها وقتٌ طويلٌ من الانتظارِ ،، والجوعُ يلوي أمعاءَها ،
والمللُ يأخذُها لعالمٍ جحيميٍّ لا يختلفُ كثيرًا عن عالمِها الأسودِ مُنعَدِمِ الملامحِ !
- يا سمير ،، يا سمير
صوتً الملاعقِ المتصادمةِ معَ الأطباقِ يـُذكي إحساسَها بالجوعِ
- يا سمير يا بني أنا " جعانة " شُـف لو فيه أكل أو اطلع هات لي آكـل
تستاءُ زوجـتُـه من صوتِ أمهِ الذي قطعَ حديثَـهما الساخنَ معَ الأكلِ الساخنِ ،
و تـُضَـيِّقُ لـَهُ عينيها قائلةً بصوتٍ يخرجُ من بينِ أضراسِها حاملاً سخطًا عنيفًا :
- قـُل لها الصباح رباح خلِّها تنخمد
دمعاتُ الأمِّ تَـلَـتْ طرقَ كلماتِ الزوجةِ لأذُنِها وعقلِها وماضيها المتناثرِ حولـَها
سمير : نامي يا أمي الصباح رباح دعينا ننام و في الصباحِ نأتيكِ بالأكلِ
الفجر قرب أن يطلع
1955
في هدوءٍ يدخلُ البيتَ ،
وجهُه لا يحملُ سوى الكآبةِ والحزنِ والانكسارِ ،
عينـُه لا يبدو منها غير دمعاتٍ متراكمةٍ و شعورٍ بقلـَّةِ الحيلةِ
- ما لك يا حسن ؟
- لا شيءَ ، لم أجد عملاً ،، هذهِ القروشُ هي كلُّ ما استلفتُـه من ابنِ عمي ،
الله يرحمك يا غبريال أفندي ؛ كُنـَّا مستورين أيامَك ،
أيامَ كُنتُ أعملُ في متجرِكَ كانَ الرزقُ واسعًا ،،
منذُ مُتَّ و نحنُ لا نجدُ قوتَ يومِنـَا بعدَما باعَ أبناؤكَ المتجرَ وسافروا
حتى دونَ أن يعطونا مكافأةَ نهايـةِ الخدمـةِ ،
من يومِها و أبوابُ الرزقِ مسدودةٌ أمامي
- لا تـُهلـِكْ نفسَكَ حزنـًا يا حبيبي بإذنِ اللهِ ستجد عملاً غيرَه و تسدِّد ديونـَكَ كُـلـَّها
و سنُدخِـل سميرَ المدرسةَ وسـيُعطيكَ اللهُ العُمرَ حـتَّى تراهُ رجلاً يافعا جميلاً مثلك ،
و نستريح نحنُ ، سينفقُ علينا وسنفرُغُ لبعضِـنا ولأولادِه ،
هيا يا حبيـبي أشبِـعنِي بابتسامَتِكَ التِي أوقعتَنِي بها يا زينة الرجال ، هيَّا
" لا يسعه إلا أن يحضنَها ويبكي مُقَـبِّلاً يدَها "
يصرخُ الطفلُ فيقطعُ قُبلةً طالت
- هيَّا يا حسن الولدُ جائعٌ ، اخرج هات له اللبن والبسكويت
- و نحنُ ماذا سنأكــُـلُ ؟
- إن تبقى معَكَ شيءٌ فهات لنا رغيفينِ و "طعميتين" ،
المهم هو يأكل ولا ينام جوعانــًا
و قُبَيْلَ الفجرِ يُعيدُ الطفلُ على آذانهما لحنَ صُراخِه ،
ينتفضانِ وتُسرِعُ إلى حملِهِ فإذا به مُحمَرُّ الوجهِ ساخنٌ ، حرارتُه مرتفعة ।
- الولد ساخن جدًّا يا حسن أنا خائفة عليه .
- والعمل ؟
- نروح به لدكتور
- و من أينَ لنا بثمنِ الكشفِ ؟ لم يعُد هناكَ مَن لم أستلف منه حتى ضَجِرَ مِنِّي !
- نبيعُ السريرَ و الدُّولابَ
- لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله .. اِفرجها من عندك يا
- كلُّه يهون المهم أن نطمئنَ عليه ،
و سأسافرُ للبلدِ بعدَ ذلكَ لأطلبَ من عَمِّي نصيـبي في ورث أبِي الله يرحمه
- طيب ، ننام الآن والصباح رباح ،
الصبح نبيعُ ما نبيعُ ونحجزُ له عندَ الدكتور ، ربنا يدبرها
- نم أنت ، سأسهر أعمل له كمادات تخفف من حرارته .
2009
يسيرُ شابان عشرينيان جوارَ النيلِ فيلمحانِ كهلاً ملقيًّا فوقَ الرصيفِ
يقتربانِ ليتأكَّدا أنه ما زال حـيًّا فتزعجُهُما رائحتُه فيبتعدانِ
و يسألانِ بائعَ الفــُلِّ :
- أحيٌّ هذا الرجلُ أم ميتٌ ؟
- حي ، و زي القرد ،
إنه الأسطى سمير صاحب محل الميكانيكي الذي كان بأول الشارع ،
بعيد عنكم المخدرات خربت عقله بعدما هربت زوجته مع شاب صغير
،، تاخدوا فل ؟
نظر الولدان لبعضهما في حيرة و قد صعب عليهما ما سمعا ،
فقال أحدهما :
- مسكين ، لعله من الواجب أن ننقله لمستشفى و نساعده
ردَّ الآخر :
- و البنات المنتظرات أمام السينما ؟
الصباح رباح ، بكرة نأتي لنراه و نساعده .
1990
تنتظرُ حـتَّى ينامَ وزوجته ، تتحركُ ببطءٍ ،
ينتابـُها خوفُ الاصطدامِ بشيءٍ في طريقِها للمطبخِ ،،
وصلت بعدَ وقتٍ طويلٍ استغرقَ فيه سميرُ فيما يفعلُه و زوجته
و استغرقت هي في مشاهد حياتِها التي توالت أمامَها ،،
فكانت تلعبُ " الأولى " أمامَ دارِها يومَ فرحِ ابنةِ خالتِها الكُبرى
و حسنُ جالسٌ - في جلبابِه الجديدِ - معَ أبيه لا يرى غيرَ هذهِ الطفلةِ الفاتنةِ ،
يجذبُ رداءَ أبيهِ و يـُشيرُ إليهِ سائلاً :
- بنتُ من هذه ؟
- و مالك بها يا ولدي ؟
- عاوز أخطبها
- بجد يا حسن يا ولدي ؟
- أي والله
- على خيرة الله ، تعالَ نكلِّم أباها ،
أبوها كان صاحبِي أيامَ الشبابِ قبلَ أن أتزوجَ أمَّك ونسافر لأسيوط
تتذكر جيدا كيف كان أمردا ،
و كيف كانت زركشة لاسته تعجبها ، كان قمرا كحيل العين أسمر
تسمع صوت سرير سمير يتحرك و تدرك ما به ولا تفكر فيه
فقط تذكر صوت قطار الفجر يحملها و حسن إلى القاهرة كما اتفق مع والدها
أنهما سيعيشان بالقاهرة و دموعها تنساب لفراقها أهلها و لفرحها بحبيبها
و بالسفر الذي حسدتها عليه بنات قريتها أمدا طويلا
تلمَّست الأواني و أزالت الغطاء و مات غبريال أفندي ،
و وجدت لحما مطبوخا و لم يجد حسن غير ابن عمه ليستلف منه ،
سقطت على الأرض فارتطمت بكرسيٍّ محدثة صوتا مفزعا ،
خرج على إثره سمير يلعن حظه النحس !
حملها لغرفتها و معه زوجته الغضبانة المتلسنة بشتائم لا حصر لها
لهذه العجوز معوجَّة الفم و اليد المتمتمة بكلام لم ينصتا له
قالت زوجته بلهجة آمرة :
الصباح رباح ،
بكرة نشُـفها و نعرف ما جرى لها
ردَّت أمه : نبيع السرير يا حسن ونكشف عليه
أحمد سعيد
18 يوليو 2009