كان الله ولم يكن قبله أحد ولم يكن معه أحد ، وحين خلق القلم قال له اكتب
فكتب ما أراد الله ، ثم خلق من نور ملائكة ومن نار الجنَّ
وعاش الملائكة في طاعة و عاش الجانُّ في عصيان حتى إذا اصطفى عزازيل
وقضى على كل الجن وقرَّب عزازيل لطاعته وعبادته غير المنقطعة ،
خلق من الطين آدم ، وكان وسيما أسمر البشرة على خلاف الملائكة البيض
و عزازيل صاحب الوجه المحمر الذي ظلت الملائكة تغبطه عليه
فهو احمرار الخجل من التقصير في رأيهم .
ولمَّا اكتمل خلق هذا الـ آدم وظلَّ جسدا مجوَّفا فارغا كان عزازيل يقف أمامه
مسبحا الله القادر على الخلق وحده ، أطال البكاء أمامه كثيرا
مقدرا عظمة ربه وحبيبه ، أخذ يطوف حوله ، يتلمسه ، يدخله و يخرج منه
ليعاين بديع صنع ربه ، حتى أتت ساعة نفخ الروح فيه ،
وقف عزازيل والملائكة ليشاهدوا تلك اللحظة المُذهِلة !
فلما نفخت فيه الروح انتفض آدم وعطس و ملأ عينيه من نور وجه خالقه
فقال : الحمد لله ،
ردَّ الله سبحانه : يرحمك الله يا عبدي
اتسعت عينا عزازيل طولا و عرضا ، تشابكت شفاهه ، يبحث عن كلمة
يصف بها ما يداخله من مشاعر وأفكار لا يجد ، كيف ؟
كيف ينطق أول ما ينطق بحمد الله ! كيف يحدثه أول ما يحدثه بوعده بالرحمة !
لماذا دعانا لنشهد هذا الاحتفال بهذا الـ آدم ؟
لم يفعل ذلك معي ولا مع غيري من هؤلاء المندهشين .
" إن لهذا المخلوق شأن يغلب شأن عزازيل ،
و سينال رعاية تفوق رعاية عزازيل المدلل "
سمعها من ملك يحادث آخر خلفه ، فالتفت مبرِّقا لهما ،
متنازلا عن زهد عينيه و ذلهما الدائم لجبروت ربه و قدرته !
أعاده الصوت عما فكر فيه من شر لهما ، شدَّه صوت ربه القائل :
" اسْجُدُوا لِآدَمَ "
صدمه الأمر و سمَّره في مكانه لم يستطع حراكا ، كاد عقله ينفجر ،
كلامهم صحيح إذًا !
أسجد لمن ؟ أي حلم لعين هذا ؟ ليتني أفيق الآن قبل الجنون !
كان الملأ كله ساجدا و عزازيل غارق في التفكير ، غير مدرك ، غير مستوعب ،
لا يرى الملائكة السجود ، لا يعرف كم من الوقت مرَّ منذ قال الله
" اسْجُدُوا لِآدَمَ "
أتته الصدمة المربكة الثانية حين قال له :
" يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ " ؟
إبليس ؟
لا أعرف هنا شخصا يُدعى " إبليس "
يتلفت حوله لينظر من هذا المُهان ! كلهم سجود
ليس من أحد غيري واقف مختلف
أيقصدني أنا ؟ معقول ؟
يرجع ببصره فإذا بآدم ذاهلٌ ، مستغربٌ ما يحدث ، خائفٌ ،
لا يعرف ما يقول ،
أيطلب العفو عن هذا الواقف المتكبر صاحب العين الممتلئة بالشر !
أهو بحاجة لدفاع ؟ إنه صاحب الأجنحة الأكثر و الأزهى و الثياب الأرقى ،
لابد هو أعلى هؤلاء مرتبة وقربا ، و لكن ، لماذا يعصى ربنا إذًا ؟
علَّه ينطق الآن ويدافع عن نفسه ، أنا لا أحتاج لسجوده ،
لكن ليته يسجد و ينهي هذه المشكلة ،
لا أريد أن أكون سببا في غضب الله على أحد .
ما زال السؤال يتردد " مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ " ؟
ترى ما يكون قولي ؟ بم أعتذر ؟ وهل أصلا عليَّ أن أعتذر ؟
أنا لم أخطئ فأنا لا أسجد إلا لله ، هكذا خلقت ،
ثم إنَّ هذا المخلوق الحقير أقل مني ومن الملائكة ،
فإذا كان لم يأمرني بالسجود للملائكة و هم أدنى مني وأعلى من هذا الحقير ،
ولم يأمر الملائكة بالسجود لي و أنا أعلى منهم ومن هذا الحقير
فكيف يأمرني بالسجود لمن هو أقل مني ؟
" أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ "
انطلقت الإجابة من عزازيل ، و العند و الغضب قد ملآه
فقاطع روبرتُ العجوزَ سائلاً : عنده حق ، لِمَ يسجد له ؟
ردَّ العجوز مبتسما : يا غلام إن الله اختبر طاعة عزازيل و الملائكة ،
فصدقوا وكذب عزازيل .
روبرت : و لكنه استخدم حقه في التفكير ،
عزازيل هذا أول العقلانيين و سيدهم و أجرأهم .
تعالت ضحكة العجوز وقال : أي عقلانية هذه ؟
الله قال له اسجد ، كان لابد أن يسجد ،
العقلانية تقتضي أن يسجد لأنه إذا كان موقنا أن الله لن يأمره بخطأ ،
فليس من داع للعصيان ، أيضا كان بوسعه أن يسجد ثم يسأل الله ،
لم يا رب أسجدتني له ؟
ولو سأل ، والسؤال باب العلم الأوسع ، لعرف وفهم .